لا يجهد الناظر إلى الحياة الشعبية الإماراتية القديمة، والمتمعن في وسائل عيشها، في اكتشاف العلاقة الوثيقة للمجتمع الإماراتي مع النخيل، إذ لا ينحصر استخدامه في أسقف البيوت أو أعمدتها أو حتى في القوارب وغيرها، بل يدخل في صناعة أواني الطعام وقبعات الأطفال، وحصير الأرض، وعدة الصيد وغيرها . ربما يكون ذلك نتاج علاقة الإنسان بأرضه، وبالطبيعة من حوله، إلا أن العلاقة التي نسجها الإماراتي مع النخيل تختلف عن غيرها من العلاقات، فليس النخيل شجرة تجني ثمارها وتستعين بخشبها في صنع الأثاث وبناء البيت وحسب، بل هو رمز الوطن وصورة الهوية التي لا يكف الإماراتي عن إعلان نفسه بها .

تلك العلاقة التي يحكيها تراث قديم يتجاوز عمره مئات السنين، جعلت النخيل يجود على أهله بكل ما يحمل، حتى صار فيها السعف أشبه بخيوط صوف ينسجون منها مستلزماتهم، ويحيكون بها نقوشاً تلون أثاث البيت، وأواني الطعام، وفراش الأرض، فطوال سنوات من العيش بين بر تزحف فيه الرمال، وبحر تموج فيه المياه، تعلم الإماراتي فنون النخلة كلها وصارت معيشته في البيئتين، من ذاك التراث نشأت فنون كثيرة تكشف سيرة الإماراتي مع النخيل، لكن أبرزها وأكثرها حرفة مهنة صناعة أواني الطعام، التي يصير فيها سعف النخيل بما فيه من جفاف ليناً مطواعاً بيد نساجيه، ومن تلك الأواني التي عرفها التراث الإماراتي واستخدمها ليعيل نفسه في كدر العيش وصعوبته، آنية الجفير أو المزماة .

الجفير أو المزماة صار لها صانعون مهرة يجيدون اختيار خامتها، ويحترفون نسج قالبها، والجفير هو سلة مصنوعة من خوص النخيل يستخدمها أهل البحر في حمل الأسماك، ويستخدمها أهل البر في حمل الرطب، وتستخدم كذلك في حمل المشتريات من السوق . يصنع الجفير من "سفة" مجدولة من خوص النخيل عرضها نحو أربعة سنتيمترات، والسفة هي نسيج خوص النخيل، وتعد من الأشغال اليدوية النسوية، حيث ينظف الخوص ويشرخ، وتصبغ كل كمية منه بلون، ثم ينقع بعد ذلك في الماء ليصبح ليناً وتسهل حياكته، وتجدل النسوة من هذا الخوص جدائل يتم تشبيكها مع بعضها، وتشذب بقص الزوائد منها لتصبح "سفة" جاهزة لتصنيع العديد من الأدوات كالسلة والمهفة، والمشب، والجراب، والحصير، وغيرها .

تبدأ صناعة الجفير بالقاعدة المسماة ب "البدوة" نظراً لبداية الخياطة منها، وتستمر خياطة السفة بشكل دائري حلزوني، وباستخدام خوص النخيل الأخضر، حتى يصل ارتفاع الجفير إلى قرابة الذراع، وبعدها يتم تعصيمه، أي تركيب معصمين أو عروتين له لتسهيل حمله، وإن زاد الارتفاع عن الذراع سمي الجفير "مزماة" . وتختلف المزماة عن الجفير بفارق طفيف، إذ يكون حجمها أكبر، وتستخدم كإحدى أدوات الغواصين والصيادين الذين يضعون فيها الأسماك، كما يعقلها الغواصون في رقابهم حين ينزلون إلى قاع البحر ليجمعوا فيها اللؤلؤ . لا يقتصر استخدام الجفير على ذلك، إذ تحمله النساء في جولات التسوق، فهو يتسع لكثير من الأغراض، ويعد بمثابة حقيبة متينة الصنع يمكنها حمل أوزان ثقيلة، كما تتفنن النسوة في زخرفة الجفير، وتزيينه، فيحكن السفة من الخوص المصبوغ بالألوان، لتظهر بأشكال زخرفية مجدولة .

تعد صناعة الجفير إحدى المهن النسائية في المجتمع الإماراتي القديم وغالباً ما تنهمك النسوة اللواتي ينشغلن فيها في أوقات الفراغ . في هذه المهنة يستخدمن الخيوط البلاستيكية المتينة في تثبيت شريط السفة ببعضه، وتعلق المعاصم، إذ كلما كان الجفير محبوكاً بعناية ومشدوداً بعضه إلى بعض، كان أجود، كونه يستخدم لحمل أوزان ثقيلة . اليوم وفي ظل التغير الحضاري الذي جرى في العقود الأخيرة على المجتمع الإماراتي، لم يعد الجفير واحداً من مستلزمات البيت الإماراتي، إذ استبدل بالكثير من الأدوات التي تغني عنه، لكنه بقي في الذاكرة الشعبية لأجيال عدة، فصورة المزارعين يحملون على رؤوسهم جفيراً مملوءاً بالرطب، لم تغب عن ذاكراة الأطفال الذين عايشوا تلك الأيام وشهدوا صفاء العيش وبراءته فيها . رغم ذلك لم يغب الجفير تماماً ولم يندثر، بل صار إحدى المفردات التراثية التي يعلن الإماراتيين عن أنفسهم به، ويفتخرون بما قدمه أجدادهم ليكونوا ما هم عليه اليوم من حضاره وتطور، وليس ذلك وحسب بل إن بعض المناطق في الإمارات مازالت إلى اليوم تستخدم الجفير وتعده والوسيلة الأفضل والأكثر متانة من تلك الأوعية والأواني المصنعة بالآلات . كما أن الكثير من المعنيين بالتراث يقتنون الجفير، بوصفه ذا قيمة جمالية ومعنوية تعيد الذاكرة إلى الحياة البسيطة التي تتجاور فيها البيوت مع النخيل، ويستظل بعضها الآخر كما لو أنهما صديقان في طريق واحد

Advertisement


H